تاريخ أهل السنة والجماعة: مقاربات متعددة
أقامت مجلة تجسير لدراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية البينية ندوتها الشهرية، باستضافة الأستاذ الدكتور بشير نافع المفكر والمؤرخ الفلسطيني، يوم الأحد 15 يناير 2023. جاءت الندوة بعنوان " تاريخ أهل السنة والجماعة: مقاربات متعددة"، سعى فيه المؤرخ لتتبع جذور هذا الاسم عبر التاريخ الإسلامي في العصور الأولى، والتحولات والامتدادات التاريخية عبر القرون.
افتتح الضيف حديثه بأن الحالة العربية السياسية والفكرية في المعاصرة والحديثة كانت محل اشتغاله العلمي والبحثي، ولكن ما لاحظه من توتر كبير داخل أهل السنة والجماعة، والعلاقة بين أهل الحديث والسلفية وما بينهما من اختلافات وتدافع، وصراعات غيرهم من الأشعرية والمتصوفة، بالإضافة إلى التوتر الحاد أحيانا بين المذاهب الفقهية، أوصله كل هذا إلى دراسة أهل السنة والجماعة، وهو موضوع بالغ التعقيد في رأيه، وتحتاج دراسته للرجوع إلى النشأة وتفكيك الموضوع.
يشير د. نافع أن بفحصه المراجع الثانوية لزملاء والمفكرين سواء ما يتعلق بالفقه أو علم الكلام والتصوف وتاريخ المذاهب، لم تسعفه بشكل كامل على فهم ولادة أهل السنة وتكونهم وانتصارهم ليكونوا السواد الأعظم للأمة.
ساق المحاضر عددًا من الأمثلة للمشتغلين في هذا الحقل، ومحاولاتهم التي تناولت الموضوع من قريب أو بعيد، من عموم أو تفاصيل، منهم الهولندي مونتغمري وات في كتابه (الفكر السياسي الإسلامي)، و مارشال هودجستون في كتابه ( مغامرة الإسلام) وما توصّل إليه الأخير من استنتاج سمّاه انتصار العالمية السنيّة، وخاصة في الفترة ما بعد السلجوقية، حيث يرى أن الفترة منا بين 447 إلى القرن السادس الهجري تعد فترة تحقق السيطرة السنة شبه الشاملة على دار الإسلام، ومع هذا لم يتطرّق هودجستون - برأي المحاضر- إلى بدايات أهل السنة وتكونهم والعوامل التي ساعدتهم على التسيّد والانتصار المشار إليه. وأضاف مثالا أيضا جورج المقدسي الذي عكف باحثا على الحنابلة وأدوارهم، لم يدفعه للاشتغال على نشأة أهل السنة. وأشار المحاضر أن مع الخليفة القادر ظهر الاعتقاد القادري الذي اصطف مع أهل الحديث- فئة من أهل السنة وليسوا جميعها- فانتصار الحليفة القادر لأهل الحديث يعد في رأي المحاضِر انتصار لأهل السنة، لاسيما في أن الخليفة القادر يشكل سلطة سياسة انتصرت لاتجاه على بقية المدارس المختلفة، وهكذا برأي الدكتور نافع برزت لدى هؤلاء أي المفكرين الباحثين فكرة أهل الحديث، ولم يتطرّقوا لأهل السنة وتكوينهم ونشأتهم، حتى جاء الدكتور رضوان السيّد ناشرا مقالين؛ الأول ( الجماعة والمجتمع والدولة)، والثاني ( مفهوم الجماعات في الإسلام المبكر)، وتناول مفاهيم ذات صلة مثل: الإيمان، والجماعة، والسنة، كما أوضح السيّد مساهمة علماء أهل الشام المبكرين في تكوين الفكري لأهل السنة، ومع هذا فإن كتابي د. رضوان السيد لم يتعاملا مع الصورة التاريخية للنشأة والتكوين. هذه الخلفية الفكرية التي اشتغلت على المرحلة المبكرة للإسلام، وغيرها مما كان باللغة الإنجليزية ونشر حول المعتزلة، والخوارج ، والشيعة الإسماعيلية، والفاطميين....فرغم هذه الجهود المهمة وتناولها لفترات معينة إلا أنها تظل في نظر الدكتور بشير نافع محاولات جزئية لا تعطي رؤية أوضح لما يسعى إليه في فهم لأهل السنة والجماعة.
بيّن الدكتور نافع أنه شعر لدراسة الأمر وتفكيكه، لا بدّ له من الرجوع إلى بدايات ظهور المصطلح، وعلاقته بمصطلح أهل الحديث؛ لأنهم أول من سمّوا بأهل السنة والجماعة، وما مرّ بهم بمسألة خلق القرآن والمحنة التي وقعت عليهم، فشعر الباحثين أن أهل الحديث والسنة هم جماعة برزت في القرن الثاني، ولأجل فهم أعمق درس الدكتور نافع أهل الحديث، حتى تبيّن له أنهم موجودون في زمن التابعين، ولكن برزوا تيارا في القرن الثاني ردا على من عرفوا بأهل الرأي، إلا أن المرة الأولى التي يرد فيها مفهوم أهل السنة والجماعة كان في الفتنة الثانية وحادثة تخلي الحسن عن الإمامة لمعاوية، وسمي العام (عام الجماعة)،ويشير الدكتور بشير إلى حادثة وقعت للتابعي سعيد بن المسيب الذي أبى المبايعة مقدمًا لابني عبد الملك بن مروان، ودفاع أحد مسؤوليه عن المسيب؛ لأنه من أهل السنة والجماعة.
مع القرن الثاني الهجري تتزايد مجموعة العلماء الذين رفضوا فكرة الانقسام، ودعوا للالتزام بسنة النبي(ص)، وعارضوا الأهواء والطوائف، وقفزوا على الانقسامات بعد الفتنة الأولى، وقالوا بخلافة الأربعة (جماعة المسلمين الأولى)، ولم يكن هذا كافيا في نظر المحاضر، فالأمر احتاج لدراسة الأشعرية والماتردية كذلك لكونهم من أهل السنة مع مرور السنة، فيما عرف أهل الحديث بأهل السلف، وكانوا أقلية، وهو ما استدعى دراسة علم الكلام وما حدث للأشعريين والماترديين ليكونا مدرستين كلاميتين مستقليتين.
لكن حسب المحاضر لمن تكن المدارس الكلامية ذات هيمنة شعبية على عموم المسلمين، بل هي الفقه هو الذي كان قائدا للعموم، حيث الحلال والحرام، المندوب والمحبوب، لا الصفات الخبرية، وغير الخبرية وخلق القرآن...فالمذهب الفقهي هو الذي كان الحاضنة الأساسية لأهل السنة والجماعة؛ فالناس كانت تعرف وتتداول الفقه الحنبلي والشافعي والحنفي والمالكي، لذا فإن فهم أهل السنة والجماعة مربط بفهم المذاهب الفقهية هذه. ولاشكّ أن تطور هذه المذاهب لم يأتِ كاملا بل تطور وأخذ زمنا حتى يعرف به أصحابه وعلمائه. ولا يمنع هذا من فهم مسألتين أساسيتين في رأي الدكتور نافع ألا وهي:
- مسألة التصوف، وكيف بدأ الاعتراض على جماعة التصوف الأولى، وكيف انتهى بمها المآل لتتصالح مع الأاجيال والجسم السني العامي وتحتضن المتصوفة من قبل أهل الجماعة والسنة، لتكون المتصوفة في نهاية المطاف من أهل السنة والجماعة في القرون اللاحقة.
- السلطة السياسة: لقد اتهم أهل الجماعة والسنة بأنهم صنيعة السلطة السياسية؛ الاموية والعباسية، وأنهم تلقوا رعاية مدة الخلافة السياسية المركزية، قبل انحسارها في عصر المتوكل. بالدراسة أثبت خلاف ذلك، وأن النتيجة القاطعة أن السلطة لم يكن لها دور .
تجدر الإشارة أن الندوة أقيمت عن بعد عبر منصة ويبكس في الثامنة مساء واستمرت لمدة ساعة ونصف كما هو معتاد، وهي مسجلة ويمكن متابعتها عبر يوتيوب مركز ابن خلدون على الرابط الآتي:
https://youtu.be/gPb0ye-YeKk?si=aBVWZ9iy9BrWc1O8