نظم مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة قطر مؤتمر "توطين العلوم الاجتماعية في الخليج: الجهود والتحديات والآفاق"، بمشاركة تسعة باحثين من مختلف دول الخليج العربية، الذين قدموا أوراقهم العلمية من خلال ثلاث جلسات علمية؛ تناولت جهود التوطين وتجاربه وتحدياته وبناء عملية التوطين في السياق الخليجي (دول مجلس التعاون الخليجي، بالإضافة إلى العراق واليمن)، وذلك من خلال تسليط الضوء على متطلباته المنهجية والعلمية، والبحث في مدى ملاءمة البناء النظري الاجتماعي لخصائص الواقع الخليجي، وكيفية تجسير العلاقة بين الأطر النظرية والمعطيات الواقعية، وقد خُتِمَت أعمال المؤتمر بجلسة حوارية حول معايير التوطين. وقد أقيم المؤتمر في فندق موندريان الدوحة أمس السبت، 30 من شوال 1444هـ الموافق 20 مايو 2023م.
وفي كلمته الافتتاحية أشار الدكتور نايف بن نهار، مدير مركز ابن خلدون، إلى ميزة هذا المؤتمر الذي حضره صنَّاع القرار الأكاديميّون، حيث حضرت سعادة الدكتورة حصة بن حمد آل ثاني؛ عميدة كلية التربية بجامعة قطر، والدكتورة فاطمة الكبيسي؛ رئيسة قسم العلوم الاجتماعية بالجامعة، والدكتور عبد العزيز المناعي؛ رئيس قسم العلوم الإنسانية بالجامعة، وهذا يدل على أن الحديث عن التوطين في المؤتمر ليس نظريا، بل سيكون له تأثير عملي في الدوائر الأكاديمية، ولو على مستوى جامعة قطر.
كما نبَّه الدكتور نايف على أن الاهتمام بعملية التوطين قديم، ولكنه مع ذلك بقي غامضا، حيث إن الكثيرين يؤطرونه بالحدود الجغرافية للدول الحديثة، كما هو ملاحظ في الدراسات الهندية والصينية التي يقود فيها مشروع التوطين رئيس الصين نفسه، ولعل الحالة الفيليبية تمثِّل استثناءً في هذا الجانب، حيث إن التجربة الفيليبية قطعت شوطا كبيرا في هذا المسار، وقد كُتبت قرابة عشرة آلاف بحث حول التوطين في مجال علم النفس بالتحديد. وفي هذا الصدد يرى الدكتور نايف أن التوطين من حيث الجذر اللغوي يدل على التهيئة، كما نجده في الحديث النبوي الذي رواه الترمذي، حيث جاء فيه: "لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا"، حيث إن الجذر اللغوي لكلمة "التوطين" يدل على معنى التهيئة، وهذه التهيئة تقوم على عمليتين أساسيتين؛ عملية النقد للمعرفة الأجنبية غير الملائمة لمجتمعاتنا، وعملية إحلال المعرفة الملائمة التي تملأ المعرفة غير الملائمة.
وبدورها قالت الدكتورة فاطمة الكبيسي: إن مؤسساتنا التعليمية تدرس النظريات الغربية في علاج القضايا المرتبطة بمجتمعاتنا المحلية، دون أن تنظر إلى قدرة هذه النظريات في علاج مشاكلنا المحلية، وهذا المؤتمر يأتي في سياق اختبار قدرات النظريات الغربية في علاج مشاكلنا المحلية؛ ليمكن البناء عليها بما يتلاءم مع حاجاتنا المحلية.
وفي كلمتها ذكرت الدكتورة مريم الكواري، رئيسة الجلسة الأولى في المؤتمر، قصة فرانز فانون، الذي نشأ ودرس في المجتمع الفرنسي، ولكنه حين ذهب للعمل في الجزائر، ترك تطبيق النظريات الطبية التي درسها في فرنسا؛ لأنها غير مناسبة للبيئة المحلية، وتاليا قام بتطوير الممارسة التي تتلاءم مع البيئة الجزائرية.
وفي سياق الأوراق التي قدِّمت في المؤتمر، فقد حاولت بعض الأوراق توطين بعض القضايا بما يتلاءم مع مجتمعاتنا، وفي هذا السياق تأتي ورقة "توطين المفاهيم التربوية: مفهوم الحياة الطيبة نموذجا" التي قدَّمتْها سعادة الدكتورة حصة بنت حمد آل ثاني، والتي ترى أن التربية المستدامة تتحقق من خلال التربية على القيم الإسلامية الأصيلة، وبناء مفهوم الحياة الطيبة في الإنسان، وتشخيص القيم ضمن إطار الحياة الطيبة، وتطوير أساليب تنمية تلك القيم وتصميم المناهج التربوية التي تركز على التعليم القائم على التجربة والتفكير الإبداعي. كما أشارت الدكتورة حصة في ورقتها على أن الحياة الطيبة تتميز بأربع خصائص، وهي: المنهج الشمولي الذي يربط بين مختلف التخصصات والبشر والبيئة، والتركيز على بناء الإنسان باعتباره مكلفا بمهمة عمارة الأرض، ووحدة الهدف وتكامل الركائز مع شركاء المصلحة، وأخيرا السعي لتحقيق درجة الإحسان في علاقة الإنسان بخالقه والكون، كما نوهت سعادة الدكتورة على قيمة الفتوة التي نبَّه عليها القرآن الكريم، والتي تتمثل في الثبات على طريق الخير والحق، والتخلي عن الحسد والانتقام والغرور، وتحمُّل المسؤولية ومحاسبة النفس، ولزوم الاعتدال في الرغبات الذاتية، ومعاملة الآخرين بالطريقة التي يحب المرء أن يتعامله بها الآخرون.